عاجل:

ناصر الدين خلال ندوة في موسكو: حان موعد الانخراط التام لدول الشرق الاوسط في هذا النظام العالمي المتغير

  • ١٨٠
اقامت الاكاديمية الروسية للعلوم، معهد الدراسات الشرقية، مركز المعلومات العلمية والتحليلية ندوة في موسكو تحت عنوان «الشرق الاوسط في نظام عالمي متغير»، شارك فيها رئيس المركز الدكتور نيكولاي بلوتنيكوف ومجموعة من الباحثين والمثقفين والفاعلين في دول الشرق الاوسط.

وعبر تقنية زوم قدم رئيس مكتب التعاون الروسي اللبناني محمد ناصر الدين شرحا عن واقع وعلاقة الشرق الاوسط بالغرب والاتحاد السوفياتي، وصولا الى عهد البوتينية السياسية التي افقدت الولايات المتحدة الاميركية هيمنتها التي لم تعد متاحة كما في السابق، مؤكدا ان على عاتق روسيا وكذلك الصين، تثبيت حضورهما في تلك البلاد في البعدين المالي والاقتصادي وهما ما تبقى للغرب في هذه الدول من سيطرة. وجاء في كلمة ناصر الدين:

الحضور الكريم..

اشكر حضوركم هنا في موسكو ويسعدني ان انقل عن قرب واقع الشرق الاوسط راهنا، لان وطني لبنان  في صلب هذا المخاض للنظام العالمي المتغير.

 لقد شهدت الساحة الدولية في السنوات الأخيرة تحولا من نظام الأحادية القطبية إلى نظام اللاقطبية، الذي أحدث حالة من انعدام الاستقرار في العالم، وهو ما انعكس بشكل كبير على دول الشرق الاوسط .

ولان الامور مرتبطة بتطورها التاريخي، لا بد من العودة الى زمن الاتحاد السوفياتي، فهو لم يكن مرتبطا بقوة نابعة من تحالف عضوي مع دول الشرق الاوسط لاسباب متعددة، لكنه من خلال موقعه الوازن على الصعيد العالمي، كان يشكل نوعا من التوازن مع الدول الغربية، وبعد تفكك الاتحاد السوفياتي، وجدت الولايات المتحدة الاميركية ضالتها التي سعت وبحثت عنها مديدا، واقتنصت فرصة الاستفراد بموقع الآحادية القطبية العالمية بلا شريك، ومضت في عملية السيطرة على قرار الدول سياسيا واقتصاديا وعسكريا، وأوكلت ادوارا رضائية لعدد من الدول الغربية. وكون منطقة الشرق الاوسط تعتبر حلقة ضعيفة تحولت الى فريسة سهلة المنال لاميركا. فدولها نالت استقلالها حديثا في المقياس التاريخي، وتم تقسيمها عبر الاحتلالات الغربية لها اي بريطانيا وفرنسا الى خرائط تضم كيانات طائفية، مذهبية ودينية. لذا استطاعت الولايات المتحدة الاميركية السيطرة على الحكومات في دول الشرق الاوسط فمدتها بالدعم العسكري بكافة انواعه وفق شروط سياسية واقتصادية وامنية قاهرة، لكن الاخطر والاهم كان حين انشأت لهذه الدول المنظومة المالية التي تم حصرها بالبرامج الاميركية النقدية من دون اي منافس.

الحضور الكريم..

في السنوات الاخيرة بدأ الشرق الاوسط بالدخول مباشرة في النظام العالمي المتغير وهو حدث لطالما ارادته شعوب تلك المنطقة، التي لا تتوافق مع الافكار والتوجهات الغربية، لا في السياسية، ولا في البيئة المجتمعية من ثقافة وتقاليد وموروثات ونمط عيش. لقد دخلت البوتينية السياسية ومعها الصين الى هذا الشرق من الباب الواسع. فالهيمنة الاميركية لم تعد متاحة كما في السابق، وانكسار الاحادية في العالم وصل الى تلك الدول.

إن قاعدة الأمن مقابل النفط بين اميركا ودول الخليج العربي، لا سيما السعودية، تقلصت. كما ان موسكو وبكين اقامتا علاقات قوية مع إيران، وعمّقت موسكو شراكتها الجيوسياسية مع تركيا، واصبحت موسكو حاضرة في احدى النقاط الحساسة في الشرق الاوسط ـ اقصد سوريا. إن هذه التحولات أتاحت المجال أمام الصين وروسيا لتعميق بصمتهما في الشرق الأوسط عبر إقامة شراكات متعددة مع الفاعلين الإقليميين.

لقد اصبحت الصين أكبر مستهلك للنفط الخليجي، بينما وثّقت روسيا تعاونها النفطي مع السعودية والإمارات ضمن تحالف (أوبك بلس) الذي يخوض صراعاً مع المستهلكين الغربيين على فرض قواعد لتسعير النفط، ويسعى بعض القادة في الشرق الاوسط  اليوم الى إيجاد هامش من الاستقلالية عن الولايات المتحدة الاميركية في سياساتهم الخارجية، انما حتى الآن لم تملأ كل من  روسيا والصين الفراغ الاقتصادي الذي يدفع بدول الشرق الاوسط  لفك ارتباطها مع اميركا التي لا تزال تمسك  بالمال والاقتصاد.

اليوم تتعزز النظرة في المنطقة بأن الصراع بين القوى الكبرى يُشكل فرصة لها لإيجاد وضع استثنائي خاص بها في العالم الجديد. تركيا مثلا تريد الانضمام إلى منظمة شنغهاي للتعاون، والسعودية ومصر ترغبان في الانضمام إلى منظمة بريكس. وهذه الخطوات وان كانت لا تعني الانحلال الكلي من الاعتماد على الولايات المتحدة لكنها تدخل في اطار عالم التوازن وفي النظام المتغير.

لذلك؛ نجد ان الادارات الأميركية المتعاقبة، وفي محاولة لمنع هذا الانحلال عن ارادتها لجأت الى تفعيل سياسة العقوبات الاقتصادية، الرامية إلى «الإقصاء والعزل والمعاقبة» لخصومها كما لحلفائها المتمردين على سياساتها، والتي لم تكن وليدة الحرب الباردة في القرن الماضي، بل امتدت إلى عمق نشوء الكيان السياسي الأميركي منذ 215 سنة، وحصدت بذلك الفشل تلو الآخر، وواكبها انعزال سياسي على المستوى الدولي. كما أنها تحظى، ولا تزال، بمدى تأييد يكاد يكون مطلقاً بين الحزبين، الجمهوري والديموقراطي.

وعلينا ان لا نهمل موقف النُخب السياسية الاميركية الحاكمة  التي أيقنت، منذ نهاية الحرب الباردة، أن تبنيها سياسة «العولمة»، كعنوان مراوغ لبسط هيمنة القطب الواحد، لن يُعمّر طويلاً في بُعديها السياسي والعسكري، واستغلال أقصى ما يمكن توظيفه من موارد اقتصادية تراكمت في إبّان هجرة التقنيات الصناعية إلى أسواق الشرق الأقصى، سعياً وراء تكديس مزيد من الأرباح.

لقد أدّت تلك السياسات المتّبعة إلى تراجع متانة الاقتصاد الأميركي من اقتصاد يملك آليات إنتاج وصناعات ضخمة، إلى اقتصاد محوره «المضاربات المالية»، وتنامي القطاع الخدماتي داخلياً، والاعتماد على منتوجات ما تزرعه الدول الأخرى وتُنتجه من مواد استهلاكية.

في البُعد الاستراتيجي عينه، كان مرئياً، منذ زمن قريب أن سياسة العولمة والقطب الأوحد ستنزوي بفعل الإفراط في الانتشار وتراكُم تكاليف التمدد العسكري العالية من أجل المحافظة على مكانة متقدمة لأميركا، وتحلّ مكانها تكتّلات إقليمية تنافسها في مراكز السيطرة الاقتصادية والتجارية، في الدرجة الأولى، مدعومة ببروز تحالفات متعددة الأقطاب، لها الفضل في التخفيف من عبء سلسلة العقوبات الاقتصادية والتجارية، والتي تتسابق واشنطن مع نفسها في تفعيلها ضد خصومها، صغاراً أو كباراً، في الظروف الدولية الحسّاسة راهناً.

ويبقى السؤال الجوهري بشأن مردود «الفائدة» من تلك السياسات على مجمل مستقبل الكيان والمفروضة على «أكثر من 30 دولة» لتاريخه، والذي لا يتوانى مسؤولوه عن ترداد التزامهم متطلبات «اقتصاد السوق» ونشر «الاقتصاد الحر»، وفي نفس الوقت وأد التنافس بين القوى الدولية المتعدّدة، وخنق اقتصادات دول وكيانات أخرى بغية فرض انصياع الدول الوطنية الأخرى لمشيئتها.

ان اميركا ومع ادارة بايدن عادت الى استحضار التبجح بإيلاء الأولوية للعمل الديبلوماسي في التعاملات الدولية. ولا تجد غضاضة في التناقض المعلَن في ثنايا السردية الرسمية مع تفعيل أقوى لسياسة العقوبات الاقتصادية وأشمل مدىَ، والتي أضحت الخيار الأول لصناّع القرار عوضاً من تسخيرها أداةً من الأدوات الديبلوماسية المتاحة لحمل الأطراف الأخرى على تقديم تنازلات تراها واشنطن حيوية، وما ينتج منها من أذىً للمدنيين يفوق ما يمكن السماح به في ميدان المعركة.

من الفرضيات المسّلم بها، ندرة مديات نجاح سياسة العقوبات المفروضة على مختلف الدول والكيانات المتعددة. كونها أداة سياسية رخيصة ليس لها انعكاسات أو تكلفة على الأوضاع الداخلية الأميركية.

يُذكر أن الحزبين الرئيسيين، الديموقراطي والجمهوري، ينعمان بالإجماع على تفعيل سياسة العقوبات الاقتصادية ضد الدول الأخرى، فضلاً عن «العقوبات الثانوية» ضد مؤسسات ومصالح تجارية تملكها أطراف «ثالثة» غير مدرَجة في لائحة العقوبات، لكنها تُعاقَب، إن ثبت لواشنطن عكس ذلك، كما شهدنا في إبّان ولاية الرئيس الأسبق باراك أوباما، وارتكزت عليها إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب.

قادة الحزب الديموقراطي في الكونغرس كانوا وراء صدور «قانون قيصر»، من أجل إنزال عقوبات شاملة ضد سوريا، ومعاقبة أي مؤسسة أجنبية، في أي مكان في العالم، تقدّم المساعدة من أجل إعادة إعمار سوريا.

على الرغم من «انفتاح» الرئيس باراك أوباما على كوبا، وإعادة العلاقات الديبلوماسية بها، فإنه أخفق في رفع العقوبات المتراكمة عليها، نظراً إلى توجّس أقطاب الحزبين في الكونغرس من تغيير في سياسات البلاد نتيجة ظروف دولية، وأصرّوا على سن قانون عقوبات ضد كوبا في عقد التسعينيات من القرن الماضي، على الرغم من تمتّع الرئيس أوباما بصلاحية تعليق العقوبات ضد أي طرف، وفق ما يراه يخدم «الأمن القومي» الأميركي.

 وزير الخارجية الأسبق، مايك بومبيو، غرّد مهدّداً أيّ دولة، وضمنها دول أوروبا الغربية، بأنها «ستخضع لأقسى العقوبات، وستشمل أفراداً أو مؤسسات، لمجرد التفكير في عقد صفقات أسلحة مع إيران»، وستُطبّق عليها قيود مصرفية (18 تشرين الأول/اكتوبر 2020).

ان سلاح العقوبات يتغذّى على فكر أسطوري، فحواه اعتقاد واشنطن أن تلك الدول سترضخ لشروطها في نهاية المطاف مع استمرار معاقبتها، وانهيار نُظُمها، وعلى واشنطن ان تدرك عقم سياسة العقوبات، إذ تلجأ الكيانات والدول المعنية إلى ابتكار طرق بديلة للإتجار وآليات أخرى لجني مردودها المالي بعيداً عن سيطرة الدولار . ولا يفوتها التنديد بسياسة تُلحق الضرر بالشرائح الاجتماعية المستهدَفة والأشد احتياجاً إلى الرعاية، صحياً واجتماعياً. فالعقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة هي بمثابة أعمال حربية موجّهة، وتقتل المدنيين، والعقوبات عادة ما تأتي بنتائج عكسية، وإن من نتائج العقوبات الأميركية أنها تعمّق هوّة الشرخ بين الولايات المتحدة والدول المستهدَفة، وتُساهم في تعاظم الإجحاف واللامساواة على الصعيد العالمي، ومن بين الأضرار تعاظم الشعور بعدم الأمان الغذائي، وتردّي الرعاية الصحية، ويواكب ذلك خطابٌ سياسي غربي مُستهلَك مفاده أن أميركا تقف مع مطالب الشعب الذي حرمته من مقومات الحياة اليومية، كما في العراق وسوريا وليبيا والصومال وايران ولبنان. ونشهد حالياً استهدافاً محموماً لروسيا بالعقوبات، بعد اندلاع الحرب في اوكرانيا، وصلت الى السعي لفرض تسعيرة لمبيعات الطاقة الروسية، في سابقة تتناقض مع أسس اقتصاد السوق، والذي تتبجّح واشنطن بحرصها على ترويجه.

الحضور الكريم..

ان الحرب الدائرة في فلسطين المحتلة اظهرت السلوك الاميركي والغربي الداعم للارهاب والقتل والتمييز العنصري، واظهرت للشعوب العربية والشرق اوسطية وللعالم مرة اخرى وجه البوتينية السياسية النابذ للقتل والتدمير والهيمنة التي تعيد مشهدية النازية كما في اوكرانيا الى فلسطين. ان روسيا اليوم كما الصين، سطرتا بالحبر والموقف حاضنة للشعوب المظلومة المضطهدة التي تعاني من آلة الحرب الاميركية والغربية، وهو ما سيكون له نتائجه في توطيد العلاقة بين منطقة الشرق الاوسط وموسكو وبكين.

الحضور الكريم..

 لقد حان موعد الانخراط التام لدول الشرق الاوسط في هذا النظام العالمي المتغير. ان شعوب المنطقة انخرطت منذ زمن وهي متقدمة على بعض حكوماتها فيما الحكومات الاخرى سلكت في هذا العالم.. و يبقى على عاتق روسيا وكذلك الصين، تثبيت حضورهما في تلك البلاد في البعدين المالي والاقتصادي وهما ما تبقى للغرب في هذه الدول،  وهما موضوعان اساسيان، علينا تعطيل قدرة واشنطن على استخدام سلاح المال والاقتصاد، لنصل الى انخراط الشرق الاوسط التام في خضم النظام العالمي المتغير.

أشكر انصاتكم والسلام
المنشورات ذات الصلة