عاجل:

الشهيد الذي توسّم فيه «الشيخ» وجه فلسطين

  • ٨١

كتب عبد المنعم علي عيسى في جريدة الاخبار:

قد تشكّل السيرة الذاتية للأشخاص، مدخلاً لفهم الكثير مما يدور في المناخات المحيطة بهم، وأيضاً لفهم العديد من التناقضات التي تعتري البيئة التي يولدون ويترعرعون فيها. هذا في العموم، فكيف الأمر إذا ما كانت تلك الثنائية، المناخات والبيئة، تستحضر صراعاً بات من الصعب اليوم الاكتفاء بتوصيفه على أنه استنساخ لما جرى مع «الهنود الحمر» الذين استطاعت حضارة «العرق الأبيض» تغييبهم عن الخريطة الديموغرافية لـ»العالم الجديد»؟

كانت حياة الشهيد يحيى السنوار (1962 - 2024) مليئة بالمحطات الصعبة والمثيرة، ولعل ذلك مثّل انعكاساً مباشراً لـ»حياة» فلسطينه التي كانت هي الأخرى مليئة بالكثير من تلك المحطات. ولعلّ ما يلفت النظر في حياة الشهيد هو «شهر أكتوبر»، الذي شهدت فيه حياته كبرى محطاتها؛ ففيه كانت الولادة، وفيه انطلقت عملية « طوفان الأقصى» التي هزّت أركان المعمورة من أقصاها إلى أقصاها، وفيه نالت النفس، التي لم تعرف اللين ولا المهادنة في رفع الحيف عن شعبها، شرف الشهادة، تاركة وراءها إرثاً من البطولات، وهو لا يقلّ عن ذاك الذي اختزنته ذاكرات الأحرار في العالم عن إرث تشي غيفارا وهو تشي مينه.

لفحت شمس تشرين جبهة السنوار للمرة الأولى في مخيمات الصفيح في خانيونس. وعندما كان في الخامسة، راحت الأذن تلتقط الهمسات الأولى عن «النكسة»، وما جرى فيها. وفي ما بعد سيترامى إلى مسامعها أن فعلاً سابقاً لهذه الأخيرة، اسمه» النكبة»، كان هو الذي أدّى إلى نزوح العائلة من مجدل عسقلان إلى غزة عام 1948، وأدّى بالتالي إلى العيش والتعلّم في مدارس «الأونروا» التي تعطي لـ»روادها» صفة «اللاجئين»، لا «المواطنين»، الأمر الذي خلق إشكالية في ذهنية الفتى الذي أخذ وعيه يتشكّل على خلفية «يوميات» العيش في تلك المناخات. ولعلّ الحلول الأولى للإشكالية المتقدمة كانت قد بدأت مع التحاقه بـ «الجامعة الإسلامية» التي استطاعت مناهجها رسم الآليات القادرة على التقليص ما بين المنزلتين، ولربما إلغاء الأولى كسبيل لا غنى عنه لإحلال الثانية محلّها.

من المؤكد أن لقاء السنوار بالشيخ أحمد ياسين، الذي جرى على الأرجح عام 1983 أو العام الذي سبقه، كان قد شكّل مفترق طرق بالنسبة إلى الخيارات الرامية إلى التقليص ما بين المنزلتين. وهي أفضت من حيث النتيجة إلى رؤية مفادها أنه «لا منزلة بين المنزلتين»: فإما أن تكون «لاجئاً» أو تكون «مواطناً» بكل ما يعنيه هذا المصطلح الأخير من مشروعية لامتلاك الأرض والحرية والقرار. والمؤكد هو أن «الشيخ» كان قد توسّم في وجه السنوار صورة لفلسطين كما يراها، الأمر الذي يمكن لمسه في إطلاق يده لتأسيس جهاز أمني خاص بالحركة التي سترى النور عام 1987 وتُعرف بـ»حركة المقاومة الإسلامية» (حماس)، وهو لمّا يكمل سني عمره الخمس والعشرين بعد.

نال شرف الشهادة، تاركاً وراءه إرثاً من البطولات

كانت سنوات الاعتقال الطويلة قد شحذت الرؤية وزادت من صلابة العقيدة بأنه ما من حلول وسط ما «بين الجنة والنار». وما يرويه رفاقه الذين عاصروه في سجن «هداريم» في شمال فلسطين يشي بأن الوقت كان يمر على السنوار ثقيلاً داخل السجن، فيما عجلات الصراع كانت تدور سريعاً خارج الأسوار، حاملة معها الكثير من المتناقضات التي تبدأ عند الانتفاضة، ثم تمر بالحروب، قبل أن تصل إلى اتفاقات ليست بأكثر من سرابات سلام. لكن على رغم ذلك، فقد بدت تلك الفترة مليئة بالكثير مما يشير إلى أن السنوار أتقن فعل «الحركة التي تخلق من العدم». وما يؤكد ذلك هو أنه استطاع من سجنه «هندسة» وإدارة صفقة الإفراج عن جلعاد شاليط عام 2011، والتي استطاع من خلالها القذف بـ1027 من رفاقه خارج أسوار» هداريم» وغيره.

عزّزت صفقة شاليط مكانة السنوار، لكنّ الأحداث أثبتت أن الأخير كان ينظر إلى نجاحها على أنه «ناقص»، وأن «حماس قصّرت في استثمارها من حيث إنها قبلت ببقاء الآلاف من الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية»، وفقاً لما يرويه عنه عبد الفتاح دولة، وهو سجين «فتحاوي» معاصر للسنوار، الذي يضيف أن الأخير كان يعمل على «إكمالها» عبر» طوفان الأقصى»، وما إصراره على تحرير مروان البرغوثي إلا محاولة منه للبحث عن شريك من «فتح» يكون قادراً على متابعة الطريق إلى النهاية.

أراد السنوار تغيير مسار «أوسلو»، وهو جرّب المصالحة مع السلطة الفلسطينية لكنه لم ينجح، وجرّب فك الحصار عن شعبه بشتى الوسائل ولم ينجح. ولذا، فإن خيار «الطوفان» كان حتمياً، وهذا الأخير شكّل انكساراً في مسار الهيمنة الإسرائيلية من النوع الذي يمكن البناء عليه لإنتاج مسارات انكسار أكبر وأكبر. وإذا ما كان قائد «الطوفان» قد استشهد، فإن «السفينة» الإسرائيلية الآن لا تجد جبل آرارات تأوي إليه.


المنشورات ذات الصلة