الحادث الذي قُتل فيه المخطوفون الثلاثة في حي الشجاعية يوم أمس (الجمعة) هو حادث مأساوي، وكارثة رهيبة، ليس فقط لأن ثلاثة من الإسرائيليين قُتلوا عن طريق الخطأ، بدلاً من أن ينقذهم الجيش الإسرائيلي من الأسر، لكن لأن الحادثة نفسها كانت، بوضوح، تتمثل في إطلاق النار من أجل قتل بشر غير مسلحين. فبحسب التحقيق الذي أجراه الجيش، كان من الواضح تماماً أن هؤلاء لا يعرّضون حياة القوة التي أطلقت النار عليهم للخطر.
وقعت هذه الحادثة المؤسفة والمشينة في أخطر أحياء غزة، حيث واجه مقاتلونا المقاومة الأشرس، و"المخربين" الأكثر توحشاً ومكراً. قبل يومين من هذه الحادثة، جرى الاشتباك الأخطر الذي وقعت فيه قوة من لواء غولاني في كمين، حيث قُتل في المعركة التي اندلعت في المكان، تسعة من مقاتلينا، من ضمنهم قائد الكتيبة 13، وقائدا سرية، وعناصر من وحدة الإنقاذ الجوي 669. علاوةً على ذلك، فإن القوة التي قام بعض عناصرها بإرداء المخطوفين، خاضت في يوم الجمعة الصعب ذاك، معارك مع "مخربين" في المربع السكني نفسه في حي الشجاعية. يمكننا أن ندرك سبب شك المقاتلين الإسرائيليين في أي تحرك على الأرض، واعتباره محاولة لسحبهم إلى كمين من العبوات الناسفة، شبيه بالكمين الذي قتل زملاءهم قبل يومين. وبناءً على ذلك، كانت أعصاب هؤلاء متوترة، وكانوا في أقصى درجات التأهب، لكن التحقيق الذي أجراه قائد المنطقة الجنوبية وضباط آخرون في الميدان، يوضح بصورة جلية، أنه لم يكن هناك أي مبرر لقتل المخطوفين. لقد كان هؤلاء يسيرون في منطقة مكشوفة، مراقبة جيداً من المبنى الذي كمن فيه عناصر الجيش، وأكثر ما يثير الذعر في الموضوع هو أن أحد المخطوفين كان يحمل عصا رُفعت عليها قطعة قماش بيضاء.
لقد سار المخطوفون، وهم عراة من قمصانهم، لاستبعاد إمكان الاعتقاد أنهم عناصر يحاولون تنفيذ هجوم انتحاري ضد الجيش بواسطة عبوة ناسفة. وحتى لو شك عناصر الجيش في المبنى في وجود حيلة ماكرة، وكمين مدبّر من عناصر "حماس"، كان في إمكان هؤلاء الجنود تنفيذ إجراء اعتقال مشبوه معتاد، أو حتى إطلاق أعيرة تحذيرية في الهواء. هكذا كان في إمكانهم اعتقال المخطوفين، وتفتيشهم بعد ذلك. لكن الأخطر في الحادثة كلها أن الرشاش الثقيل الذي أطلق النار والجنود الذين فتحوا النار على المخطوفين الثلاثة الذين رفع أحدهم راية بيضاء، فعلوا ذلك بما يتعارض تماماً مع أوامر فتح إطلاق النار المعمول بها في الجيش الإسرائيلي، ليس فقط في خضم معارك غزة، بل في كل مكان، إذ يُعتبر ما حدث خرقاً خطِراً للانضباط والقانون العسكريَين.
للأسف الشديد، وما يثير الحنق، أن هذه ليست نهاية القصة. فقائد الكتيبة التي أطلقت النار ظن أن ما حدث كان اشتباكاً مع "المخربين". وفي هذه الأثناء، كان أحد المصابين لا يزال في قيد الحياة، إذ تمكن من الهرب إلى داخل أحد المباني القريبة. وقد وصل قائد الكتيبة مع القوة العاملة تحت إمرته بعد دقائق معدودة إلى ذلك المبنى. سمع الضابط وعناصره شخصاً يصرخ "أنقذوني" بالعبرية، من داخل المبنى، وقد دعوه إلى الخروج، وعندما فعل ما أمروا به، أردوه قتيلاً.
لدى استعادة ما حدث، أوضح الجنود أنهم اعتقدوا أن استغاثة "أنقذوني" بالعبرية كانت محاولة من عناصر "حماس" لسحبهم إلى داخل المبنى. هذا الاعتقاد لا يخلو من الصحة، إذ وقعت فعلاً عدة حوادث، حين قام عناصر من "حماس" بتشغيل تسجيلات باللغة العبرية لأطفال يبكون ويطلبون الغوث باللغة العبرية، من أجل جذب رجالنا إلى فخ يتمثل في حقل من الألغام. لكن الحالة التي أمامنا، لم يكن فيها أي نشاط مماثل، فالمخطوف خرج بنفسه إليهم، وهم لم يكونوا مضطرين إلى دخول المبنى، فضلاً عن أنه لم يكن مضطراً إلى الخروج أصلاً، لأنه كان في مكان آمن قبل إطلاق النار عليه، ولذا، فإن إطلاق النار على المخطوف الثالث الذي بقي في قيد الحياة، لم يكن مبرَّراً عسكرياً في المطلق، وهو يتعارض مع أوامر فتح النار، وقواعد السلوك الانضباطي الملزمة لجنود الجيش الإسرائيلي. لم تكن هذه التفاصيل معروفة بالأمس، ولذا، فإنني، مثل كثيرين آخرين لم يعرفوا تفاصيل التحقيق التي تكشّفت عند الظهيرة، اعتقدنا أن الأمر يتعلق بخطأ مؤسف لا غير، وبمخطوفين شاء سوء حظهم أن يقعوا في مرمى نيران طرفَين مشتبكَين.
تثبت نتائج التحقيق اليوم أن المأساة لها أبعاد أشد خطورة: فهناك، أولاً، موت المخطوفين بنيران الجيش الإسرائيلي الذي كان من المفترض أن يحميهم؛ ثانياً، سلوك الجنود الذين أطلقوا النار على أشخاص لم يعرّضوا حياتهم للخطر، بل عمد هؤلاء المخطوفون إلى استخدام جميع الوسائل المعتمدة دولياً للإشارة إلى أنهم لا يمثلون خطراً. هذه ليست مأساة فحسب، بل هي عار، وهي وصمة ينبغي للجيش العمل بجد من أجل التأكد من أنها لن تغيّر، ولن تشوّه محاربينا، واستقامة دربهم، وأخلاقياتهم القتالية العالية.
إن الإيمان باستقامة دربنا، وأخلاقياتنا القتالية، هما عنصران مركزيان تستند إليهما قوة الجيش الإسرائيلي، ويجب ألا يتآكل هذان العنصران، حتى في الأوقات التي تتوتر الأعصاب، وتغلي الدماء، ونشعر فيها بالإذلال، والغضب، والسعي للانتقام. عزاؤنا واحد فقط، وهو أن الجيش سيقوم بإجراء تحقيق سريع وشامل، وبنشر النتائج المروعة، من دون تبييض لها، حتى نتمكن من استنباط العبر.
×
المنشورات ذات الصلة
الصحافة العبرية