جاء في جريدة "الأخبار":
أعادت هيئة علماء المسلمين انتخاب الشيخ سالم الرافعي رئيساً لها، وكان أوّل المهنئين وفد من حزب القوات اللبنانيّة. ما فتح باب التساؤلات عن أسباب إعادة إحياء دور «الهيئة» في ظل هذه الظروف وتعويمها برمزٍ من رموز السلفيّة
بعد «عصر الحمائم» الذي استمر أكثر من 6 سنوات، عادت هيئة علماء المسلمين إلى «زمن الصقور»، مع انتخاب الشيخ سالم الرافعي بالإجماع، الأحد الماضي، رئيساً جديداً لتجمّع المشايخ الذي أُسّس عام 2012، من محسوبين على تيّارات سلفيّة (الجهاديّة والسروريّة) وإخوانيّة ومستقلّين.
تأسّست «الهيئة» مع بداية الحرب السوريّة، ولمع نجمها خلالها، واستقطبت الشّارع على حساب الأحزاب الأكثر اعتدالاً، وحتّى على حساب دار الفتوى. لا بل عُدّ إنشاؤها تعويضاً عن «السقوف المنخفضة» للمفتين المتعاقبين بسبب الحسابات الدّاخليّة والتوازنات. فصار بمقدور المشايخ أن يعلنوا التعبئة العامّة لنُصرة السنّة، وحوّلوا بعض المساجد مطابخ لغسل أدمغة الشبّان. ومنذ تأسيس الهيئة، كانت الجماعة الإسلاميّة عمودها الفقري ورافعتها الأساسيّة.
لم تخف «الهيئة» تواصلها مع «جبهة النّصرة» ثم «داعش»، بل بلغ التنسيق أوجه، في محطّات كثيرة، عندما زار مشايخ «الهيئة» عرسال أثناء المعارك العسكريّة، وأثناء المفاوضات لتحرير العسكريين المُختطفين، وعبر إرسال الشباب في رحلاتٍ جهاديّة إلى سوريا، كما تبيّن في التحقيقات مع غالبيّة الموقوفين، ومن بينهم من كانوا أعضاء في «الهيئة».
انتعاشٌ فموت سريري
هكذا، تنامى دور الهيئة وتطوّر عمّا رسمه المؤسّسون لها، كتجمّع مشيخي يهدف إلى تحسين المؤسسات الدينيّة ورفع المظلوميّة عن «الموقوفين الإسلاميين»، ونُصرة الشعب السوريّ في حربه ضد النّظام، إلى أدوارٍ أمنيّة وعسكريّة، أسهمت في التحريض الطائفي وتأمين الإمدادات اللوجستيّة والبشريّة لمصلحة «داعش» و«النّصرة». ومع تراجع دور المنظّمات الإرهابيّة في سوريا، أفل نجمها وسُرعان ما انشغلت بخلافاتها الداخلية. إذ أثيرت علامات استفهام حول الموارد الماليّة التي مكّنت بعض قيادييها من بناء مؤسسات خاصة ومراكمة ثروات، دفعت ببعض المشايخ إلى تعليق مُشاركتهم في الاجتماعات، حتّى جاء الاستحقاق الأوّل: انتخاب مفتي الجمهوريّة. شعر المستقلّون أنّ هدف إصلاح المؤسسات الدينيّة ليس مُتاحاً عبر «الهيئة» التي دعمت وصول الشيخ عبد اللطيف دريان إلى سدّة الإفتاء على حساب مرشّحها الشيخ أحمد درويش الكردي.
خرج المستقلّون وبقي السلفيون و«الجماعة» ومن يدورون في فلكها، إلى أن وقع الخلاف عندما طالب هؤلاء الأخيرون بموقفٍ من «الهيئة» بعد اعتقال السلطات السعودية عدداً من المحسوبين على «الإخوان المسلمين» وفلسطينيين أتوا إلى السعودية لأداء مناسك العُمرة.
رويداً رويداً، انكفأت «الهيئة» تماماً مع افتقادها إلى الدّعم المالي الخارجي، باستثناء حضورها الهزيل في انتخاباتها الدّاخليّة وبعض المواقف العامّة، من دون أن تهزّها التحرّكات الشعبيّة في تشرين 2019، أو تهزّ شعرة فيها عمليّة طوفان الأقصى وما تلاها من مجازر، فغابت حتى عن الإسناد اللفظي. وذابت تماماً الحماسة التي كان عليها قياديّوها إبّان «الثورة السوريّة»، فلا من يُعلن نصرة سنّة غزّة، ولا من يُناصرهم!
أتت عودة الرافعي إلى رئاسة الهيئة بعد 10 سنوات من انتخابه رئيساً لها للمرّة الأولى. صاحب الفكر السلفي الجهادي المعتدل الأقرب إلى «القاعدة» منه إلى التيّارات المتشدّدة، كما يصفه أعضاء «الهيئة»، والذي لم يغب عن مطبخ قراراتها يوماً، وحافظ على نفوذه فيها، أُعيد انتخابه لستة أشهر، بعد سنواتٍ من الغياب عن الواجهة، بسبب «التضييق الأمني عليه» لورود اسمه في عدد من الملفّات الأمنيّة، وثبوت تورّطه في إخفاء عدد من المطلوبين أثناء تنفيذ الخطّة الأمنيّة في طرابلس.
ولإمام مسجد «التقوى» رمزيّته بسبب ارتباط اسمه بحقبةٍ طويلة من الانغماس في الحرب السوريّة، بالتزامن مع تصاعد التطرف في الشارع السني اللبناني، وموجة الانتحاريين التي اجتاحت عدداً من المناطق في عزّ الحرب السورية. وبالتالي، أثارت إعادة انتخابه في هذا التوقيت تساؤلات عدة: هل لها علاقة بتغيّر مزاج الشّارع السني المأخوذ بـ«الإخوان المسلمين» بعد الحرب على غزّة، والمتعاطف مع مقاومة حزب الله الذي طالما ناصبه الرافعي العداء، ما نفّس الاحتقان السني - الشيعي الذي سيطر لسنوات في لبنان؟ وهل إعادة إحياء «الهيئة» بتياراتها السلفيّة لمواجهة صعود «الجماعة الإسلامية» بين سنّة لبنان؟
ما يشي بأنّ خطوة الانتخاب «غير بريئة»، هو أنّ معراب كانت أول مهنئي الرئيس الجديد لـ«الهيئة» الذي استقبل أول من أمس وفداً من حزب القوات اللبنانيّة برئاسة النائب إيلي خوري، نقل إليه تحيّات رئيسه سمير جعجع. بالطبع، لن يضير جعجع أن يُفتح «باب سني» في وجهه وأن يوجه تحية إلى الشيخ السلفي بعدما أوصدت أمامه كل الأبواب السنية.
غير أن المستغرب هو مخالفة الرافعي المزاج السني بانفتاحه على القوات، إلا إذا كان الأمر، على ما يرى متشكّكون، مرتبطاً بتحضير أرضيّة سنيّة تُلاقي سرديّة خصوم المقاومة، في «اليوم التالي» للحرب، لضرب كل مكتسبات طوفان الأقصى، من تخفيف الاحتقان المذهبي إلى إعادة قبول حزب الله في البيئة السنية، وسحب البساط من تحت «الجماعة الإسلامية».
في المقابل، يقلّل بعض المُتابعين من قدرة «الهيئة» على اختراق الساحة السنيّة كما كان عليه الوضع عام 2012، بعدما غادرها الكثير من العلماء، والأهم هو غياب التّمويل والدّعم الخارجي، وإن كانوا يرون أنّ في عودة الرافعي محاولات لاستدراج عروض. ويرون أنّها «مجرد انتخابات عاديّة تجري دورياً، ووصول الرافعي إلى الرئاسة لن يدوم أكثر من 6 أشهر، بحسب النّظام الداخلي»، وينقلون عن قياديين في «الجماعة» أنّ «انتخابه جرى بالتنسيق معنا، وخصوصاً أنّ الهيئة تُمثّل العُلماء السنة على اختلاف انتماءاتهم. كما أنّ الرافعي ليس بعيداً منّا، وعلاقتنا ممتازة معه، ووصوله إلى الرئاسة يصب في هذا المسار، والهيئة هي بيئة حاضنة لتقويض المشروع الصهيوني، ومواجهة المرحلة الجديدة في الصراع الصهيوني، ومهما كانت التباينات بيننا، فإنّ القضيّة الفلسطينية تجمعنا». كذلك يقلل هؤلاء من أهمية استقبال وفد «القوات»، ولا يرون أنّ في الأمر رسالة لهم، إذ «إنّنا حريصون دائماً في هذا الظرف على تخفيف الانقسام الدّاخلي، وعدم الانشغال بالخلافات الداخليّة، مصرون على محاولة توحيد الجهود لمواجهة أي توسّع عدواني في الجنوب»، مضيفين: «نتفهّم عدم اعتذار الرافعي عن عدم استقبال أي وفد يُريد تهنئته، ومنهم القوات، ولكن إذا رفض استقبال طرف آخر، فسنبني على الشيء مُقتضاه».
أما بعض أعضاء «الهيئة»، فيضعون زيارة وفد القوات في «الإطار الطبيعي» من ضمن سلسلة اللقاءات التي ستقوم بها «الهيئة» في الأيّام القليلة المقبلة للتواصل مع مختلف الأطراف.