كتب غسان سعود في جريدة "الأخبار":
من يراقب ردود فعل الإسرائيليين وبعض الأفرقاء اللبنانيين على فيديو «عماد - 4»، الذي وزعه حزب الله نهاية الأسبوع الماضي، يلاحظ ضبط العدوّ لنفسه وجمهوره وعقلانية تعليقاته وتغطيته للخبر بنقاش علميّ – عسكريّ – أمنيّ، مقابل هرج ومرج حقيقيَّين على مستوى خصوم المقاومة في الداخل اللبناني.من المقابلات والمقالات إلى التقارير ومقدّمات نشرات الأخبار الإذاعية والمرئية والمسموعة وحركة المناصرين على مواقع التواصل الاجتماعي: لم يكن هناك رأي علمي أو موزون أو هادئ واحد، ولا فكرة منطقية بمعزل عن صوابيتها.
خواء يبلغ ذروته مع مسؤول تواصل أخذ على عاتقه قطع كل إمكانية للتواصل، وخفّة تبلغ قمّتها مع نائبة قررت أن تكتب التاريخ كما سمعته من رئيس ميليشيا متقاعد في دكانة الحي. لا تتعلق المشكلة هنا بالانفصال عن الواقع الذي يعترف به الإسرائيليّ والسعوديّ والأميركي، وإنما في انفصال بعض اللبنانيين عن كل من الواقع والجغرافيا والاقتصاد والتاريخ والمنطق والعلم، وفي اختزالهم كل الغباء والعبثية واحتقار الشعب اللبناني بشعارهم ومشروعهم القائل إن «قوة لبنان في ضعفه».والمفارقة، هنا، أن لبنان لا يكون ضعيفاً بنظرهم حين يتعلق الأمر بسوريا مثلاً، أو حين «تهزّ منازلهم»، أو يغنّي المغني، سواء كان مطرباً أو رئيس حزب «وينو اللي ناوي يقاتل»، لكنه يصبح ضعيفاً ومسكيناً ومغلوباً على أمره و«مين ما أخذ إمّي بقلّو عمي» حين يتعلق الأمر بإسرائيل. فيتناسى هؤلاء كل مراجلهم و«المدفع الذي على التلة عم يصرخ من بعيد»، ويهبّون خانعين مسحوقين لتقبيل الأيادي والدعاء عليها (أمام مجلس الأمن) بالكسر.
وإذا كان الموفدون الأميركيون يبحثون علناً عن حلول في ما يتعلق بالقرار 1701، في ظل رفض إسرائيل الالتزام بمندرجات القرار بشأن الانتهاكات اليومية وعلى مدار الساعة للأجواء اللبنانية، وجد هؤلاء الحل: التزام من جانب واحد، وكأن هاجسهم الدائم إعطاء الإسرائيلي كل ما يريده من دون أي مقابل. «سياديون» يغضّون النظر عن هذا الانتهاك اليومي للسيادة.
لماذا؟ لأن «قوة لبنان في ضعفه»، يقول أحد جهابذة حزب الكتائب بكل دونية وضعف في إحدى المقابلات، و«يحلّل» نائب قواتي: «هكذا يظهر الإسرائيلي أمام العالم بمظهر المعتدي»، وكأن تقارير الأمم المتحدة الموثقة لآلاف الانتهاكات الإسرائيلية بين عامي 2006 و2023 لا تكفي، أو كأن الإسرائيلي يبالي أساساً بالأمم المتحدة والرأي العام العالمي وبالعالم كله.
معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي نشر أمس استطلاعاً كشف أن 8.5 في المئة فقط من المستطلَعين الإسرائيليين متأكدون من أن أهداف الحرب ستتحقق بالكامل، لكنّ هناك إجماعاً في كتلتَي القوات والكتائب ومن معهما على أن الأهداف الإسرائيلية تحققت منذ أشهر، رغم تواصل القتال.
تتكبّد الولايات المتحدة كلفة تحريك الأساطيل البحرية والجوية وانتقال الإدارة الأميركية بكامل عدّتها وعديدها إلى المنطقة لتوفير مزيد من الوقت لإسرائيل في مواجهتها مع حركة «حماس» التي «انتهت» بالنسبة إلى الخبير العسكري الاستراتيجي الأول في حزب القوات اللبنانية العميد المتقاعد وهبي قاطيشا، الذي ذاع صيته حين كان في الخدمة بخيانته للبزّة العسكرية. وفيما لكثير من الإعلاميين والكتّاب السعوديين وجهات نظر لا تخلو من الإيجابيات ويمكن مناقشتها بهدوء، فإن حلفاء المملكة اللبنانيين لا يتأثرون كما هو واضح إلا بمن انتقلوا من الضفة الخليجية إلى الضفة الإسرائيلية بالكامل.من الواضح أن خروج كل من رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي السابق وليد جنبلاط ورئيس تيار المستقبل سعد الحريري من المسار السياسي الذي بدأ في البريستول، يعيد عقارب الساعة بالقوات اللبنانية ومن معها إلى ما قبل عام 2005، حين كانت مجرد مجموعات طلابية موزّعة في بعض كليات الجامعة اللبنانية وبعض الجامعات الخاصة في جبل لبنان، وينقلها بالتالي من رحاب الـ 10452 كلم على مستوى التفكير إلى سجنها اليميني الضيق السابق، حيث لن تجد حليفاً صيداوياً جدياً واحداً في أي انتخابات مقبلة، بعدما غادرها حليفها العكاري في الانتخابات النيابية الأخيرة خالد ضاهر، فيما انتقلت القوات على مختلف المستويات من مقارعة حزب الله إلى مقارعة النائب بلال الحشيمي، الذي كان مرشحاً عن المقعد السني على لائحتها في زحلة في الانتخابات النيابية الأخيرة ولطالما عدّته ضمن نوابها.
وما قاله النائب القواتي الياس اسطفان في ختام بيان الرد على الحشيمي بشأن «المرحلة الدقيقة» التي «تتطلب التكاتف والتفكير» بعيداً عن «الخطابات التي تثير الانقسامات أكثر مما تقدم الحلول، كان ينبغي أن يوجّهه إلى رئيس حزبه، بغض النظر عن صعوبة «التكاتف و... التفكير» في قاموس معراب.
و«الاشتباك البقاعي» جاء بعد أيام قليلة على «الاشتباك الصيداوي» الذي اضطرّ الجماعة الإسلامية إلى إصدار بيان غير مسبوق بحدّته في تاريخها رداً على «المحاضرة التاريخية» للنائبة القواتية غادة أيوب. كما يتزامن مع الاشتباك المتواصل بصمت مع الحزب التقدمي الاشتراكي مع افتراض القوات أنها هي، لا وليد جنبلاط، تعبّر عن مزاج الشارع الدرزي، مثلما افترضت قبل الانتخابات أنها هي، لا الرئيس سعد الحريري، من تعبّر عن مزاج الشارع السني، قبل أن تتتالى الصفعات لهذه الافتراضات في صناديق الاقتراع.
في النتيجة، يمكن لفريق الانتقال من الملعب الواسع الذي عبّر عنه يوماً لقاء البريستول وتجمّع 14 آذار إلى الملعب الضيق نظراً إلى ظروف ما، لا مشكلة هنا. المشكلة في الانتقال من الملعب الكبير إلى الملعب الصغير من دون عقل وعقلانية ومنطق.
ففي السجن اليميني الضيق السابق، كانت هناك منظمات طلابية وحركة جامعية، أما اليوم فلا هيئات طلابية ولا حراك جامعيّ حتى. وقبله، في الزمن الإسرائيلي، كانت ثمّة ميليشيا ومشروع، أما اليوم فلا هذه ولا ذاك، بل فقط مومياءات يعميها الجهل والحقد والكراهية، ولا تريد أن تصدّق أنها انتهت من سنوات والتهمها الدود.