كتب ابراهيم الأمين في جريدة "الاخبار":
«الكلام عن المفاوضات شيء، وكلام المفاوضات شيء آخر». هذا التوصيف لمرجعية معنية بالمحادثات الجارية منذ نحو أسبوعين، تحت عنوان «البحث عن صفقة قابلة للحياة» في غزة. وتعتقد المرجعية نفسها بأن التحفّظ الظاهر في مواقف حركة «حماس»، حتى قبل اجتماع الدوحة الأخير، مردّه إلى نتائج المشاورات والأفكار التي أظهرت أنّه ليس هناك من جديد، سوى تغييرات لمصلحة العدو، وهو ما كشفته الأوراق الأولى التي أعدّها وقدّمها الجانب الأميركي، علماً أن الجانبين المصري والقطري لا يخفيان أنهما يواجهان ضغوطاً كبيرة من الولايات المتحدة والدول الغربية لإلزام «حماس»، لا إقناعها، بالورقة الأميركية المقترحة.وبحسب المرجعية، فإن «حماس» توصّلت منذ وقت طويل إلى قناعة بأن العدو لا يريد وقف الحرب، وهي تتأكد مرة بعد أخرى أن الجانب الأميركي لا يمارس الضغط المطلوب على إسرائيل. وهذا ما جعل الحركة حذرة ومتشكّكة في ما يجري تداوله، وكان قرارها عدم المشاركة المباشرة في المفاوضات لعدم التورّط في لعبة الأخذ والرد، تاركة للوسيطين، المصري والقطري، إدارة النقاش مع الجانبين الأميركي والإسرائيلي.
وتوضح المرجعية أن الجديد في جولة المفاوضات الأخيرة يقتصر على الدعاية الهائلة من جانب الأميركيين. كما أن «حماس» التي تعرّضت لضغوط كبيرة من أجل المشاركة بوفد يملك تفويضاً باتخاذ القرار، عمدت بعد اغتيال الشهيد إسماعيل هنية إلى إبلاغ الوسطاء، بأنها لن تتوقف عن المشاركة في أي مسعى يهدف إلى وقف الحرب، لكنها ستغيّر من طريقة تعاملها مع الأمر. وعندما جاء قرار شورى الحركة باختيار قائد غزة يحيى السنوار خليفة لهنية، كان الأمر بمثابة رسالة إلى الوسطاء بأن الحركة لن تعمل تحت الضغط، وأن الأمر الوحيد الذي يحفّزها على السير بأي صفقة، هو تلمّس وجود مشروع أميركي حقيقي لفرض وقف الحرب على حكومة الاحتلال.
لكنّ المرجعية أشارت إلى وجود عناصر جديدة دخلت على الخط، إذ عبّر القطريون والمصريون، صراحة، عن أن قرار إيران وحزب الله و«أنصار الله» الرد على الاعتداءات والاغتيالات الإسرائيلية جعل الجميع ينهضون من مقاعدهم، ويتحركون من أجل ما يطلقون عليه «منع الانزلاق نحو حرب إقليمية واسعة». ولذلك، تلفت المرجعية نفسها، إلى أن الوسيطين القطري والمصري، يحاولان القول إنه يجب إقناع محور المقاومة بعدم الرد، أقله الآن، خشية أن تتذرع إسرائيل بالرد للهروب من أي التزامات تخصّ غزة.
وتشرح المرجعية الموقف الحالي بالآتي: في نيسان الماضي، عندما أعلنت إيران جهاراً نهاراً
أنها سترد على قصف العدو للقنصلية الإيرانية في دمشق، تلقّت اتصالات من كل دول العالم. يومها أبلغت طهران الجميع أن الأمر الوحيد الذي يمكن أن يحول دون الرد، هو الإعلان عن وقف الحرب على قطاع غزة. لكن، تبيّن أن العدو غير مهتم بوقف الحرب، وجاء استنفار العالم كله لتوفير مظلة حماية لإسرائيل، لجعل الضربة الإيرانية حتمية. اليوم، يتكرر الأمر نفسه، مع بعض الاختلاف، إذ إن الضربة الإسرائيلية لإيران وحزب الله جاءت أشد وقعاً من السابق، ما دفع بقوى محور المقاومة مجتمعة إلى إعلان نيتها الرد. وكما في السابق، استنفر حلفاء إسرائيل وهبّوا لنجدتها، وكل اتصالاتهم تركّز على البحث عن طريقة لإقناع إيران وحلفائها بعدم الرد. ومع أن محور المقاومة قال، ولا سيما حزب الله و«أنصار الله»، إن الرد حتمي بمعزل عما يجري في غزة، عزّز الوسطاء التواصل مع إيران، لمعرفة ما إذا كان عرض نيسان لا يزال قائماً الآن. وهم توجّهوا إلى الإيرانيين بالعرض نفسه، لكنهم قدّموه بطريقة معاكسة: ماذا لو تعطوننا فرصة لإقناع أميركا بالضغط على إسرائيل من أجل التوصل إلى اتفاق يوقف الحرب على غزة، وعندها، يكون هدفكم قد تحقق، وإذا لم يحصل الاتفاق، افعلوا ما تريدون!
وبحسب المرجعية نفسها، فقد حرصت إيران على إبلاغ الجميع بأن وقف الحرب، هو الهدف المركزي لكل جبهات الإسناد المفتوحة في المنطقة، وأن إيران تريد أيضاً أن يتوقف هذا العدوان، وهي مستعدّة لدفع الأثمان مقابل تحقيق هذا الهدف. لكنّ إيران – وفق المرجعية نفسها – لم تتلفّظ أبداً بما يفيد بأنها ستتراجع عن الرد إذا تم إيقاف الحرب. وهو ما تحوّل إلى عنصر ضاغط على الوسطاء أيضاً، علماً أن الإسرائيليين، رغم قلقهم الكبير من الردود المنتظرة، يتّكلون علناً على الجهود الغربية والعربية في بناء المظلة الجديدة لحماية الكيان. كما تقصّد العدو، حتى أثناء توجه فرق التفاوض إلى الدوحة، تكثيف عملياته العسكرية في غزة، وتوسيع مدى عملياته في الضفة الغربية، ولجأ إلى استخدام أسلحة ثقيلة في قصف جنوب لبنان، وعاد قادة الكيان للحديث عن «النصر المطلق». ومع ذلك، فإن الجانب الأميركي كان يحاول إقناع الآخرين، بأن واشنطن «تريد فعلياً التوصل إلى اتفاق على وقف الحرب»، وهو ما ترجمه الوسطاء على شكل توقعات، بأن تبادر الولايات المتحدة إلى ممارسة ضغط كبير على إسرائيل، وأن تفرض عليها بنود الصفقة بما يتناسب مع رغبات جميع الأطراف وليس وفق ما تراه إسرائيل فقط.
وقبل ساعات من عقد الاجتماع الأول لرؤساء الوفود المصرية والقطرية والأميركية والإسرائيلية في الدوحة، كان المعنيون بالملف، يدقّقون في نوعية الأفخاخ الإسرائيلية الجديدة، علماً أن الجميع عمل تحت وطأة التسريبات الإسرائيلية عن تفويض الوفد المفاوض بصلاحيات أوسع، أو الحديث عن ضغط أميركي سيقنع إسرائيل بالحل. لكنّ الانتظار لم يطل، حتى بان المشهد على ما هو حقيقي:
أولاً، رفضت إسرائيل بصورة مطلقة أن يكون الهدف من الاتفاق هو وقف الحرب. وأصرت على أنها «هدنة» لتبادل الأسرى والمعتقلين.
ثانياً، رفضت إسرائيل استخدام عبارة الهدوء المستدام أو وقف الحرب، وطلبت أن يكون الحديث عن وقف شامل للعمليات العسكرية خلال فترة تنفيذ بنود الصفقة، وأن إسرائيل تحتفظ لنفسها بحرية العمل العسكري والأمني لتحرير مستوطنيها، وحيث تجد إسرائيل مصلحة في ذلك.
ثالثاً، رفضت إسرائيل الانسحاب الشامل والكامل من قطاع غزة، لا فوراً ولا خلال الانتقال إلى مرحلة ثانية من الاتفاق. والخريطة التي عرضها رئيس «الموساد» في الاجتماع، تشير إلى «إخلاء واسع للقوات» من القطاع، لكن مع بقاء قوات على محوري فلادليفيا ونيتساريم.
رابعاً، ربط هذا الوجود باتفاقات تضمن لإسرائيل عدم عودة «حماس» إلى العمل سياسياً ومدنياً وليس عسكرياً فقط، وبدء النقاش حول آليات عمل جديدة عند معبر رفح من جهة، وعلى نقاط العبور بين الجنوب والشمال، كشرط إلزامي قبل أي انسحاب كامل من هذه المناطق.
خامساً، إسرائيل لم تعد تقبل بالتصنيف السابق للأسرى المعتقلين لدى «حماس»، وبعدما مات عدد منهم أخيراً، مع معطيات عن وجود إصابات بينهم، أو حالات مرضية. لذلك، طلب العدو تعديل مفهوم «الرهينة الإنسانية» الذي كان يقصد به ما تبقّى من مدنيين ونساء وكبار سن. وطلب ضم الجرحى والمرضى إلى خانة «الرهينة الإنسانية»، قبل أن يعود إلى المطالبة بأن يكون العدد من الأحياء كبيراً، لكي يوافق على رفع عدد المعتقلين الفلسطينيين المفترض إطلاقهم.
سادساً، تصرف العدو وكأنه أبدى مرونة حيال عدد المعتقلين المنوي الإفراج عنهم (يتجاهل العدو والوسطاء أن عدد الأسرى الفلسطينيين لدى العدو قد تضاعف مرة ونصف مرة خلال الأشهر العشرة الماضية). لكنه عاد ليطرح شروطاً بما خص الأسماء والنوعية، مع تركيز يصل إلى حد القطع، بأن إسرائيل لن تطلق سراح قيادات بين المعتقلين إلا في حال إخراجهم إلى دولة ثالثة، مع همس إضافي، بأن تكون الوجهة الجديدة لهؤلاء، من الدول التي لا تسمح للمُفرج عنهم بالعودة إلى العمل السياسي. وهو ما فُسّر بأن إسرائيل تعرض اخراجهم من المعتقلات مقابل وضعهم في إقامة جبرية في بلد ثالث.
ورغم أن المناقشات التي جرت بين الوسطاء وإسرائيل لم تصل إلى خلاصات حاسمة، فإن ما نقله الوسطاء إلى الجانب الفلسطيني، حمل تكراراً للوعد بأن واشنطن تضمن أنه بمجرد إقرار الصفقة، فلن تعود إسرائيل إلى الحرب من جديد. وهو أمر لا يمكن قبوله من جانب المقاومة. وقد صارحت «حماس» الوسطاء بأن الرغبة القوية بوقف الحرب، وبدء إغاثة الناس، وإطلاق سراح المعتقلين، لا تعني أن المقاومة مستعدة للقبول بشروط فشل العدو في تحقيقها من خلال الحرب المستمرة.
لكن الذي لفت المرجعية المطّلعة على المفاوضات، هو أن الوسطاء أنفسهم، كانوا يحرصون بين اجتماع وآخر، ليس على التواصل مع حماس فقط، بل على التواصل مع إيران، وإبلاغها بأن الجهود مستمرة، بما يجعل التواصل كأنه طلب لتمديد مهلة «عدم الرد» حتى يتم الوصول إلى نتيجة... وهو ما دفع بمسؤول فلسطيني بارز إلى وصف حصيلة جولة الدوحة بالقول: «تولّت الولايات المتحدة بنفسها، إشاعة الأجواء الإيجابية، وذلك بهدف تعطيل رد محور المقاومة على اغتيالَي بيروت وطهران، ومحاولة تمرير مطالب إسرائيلية جديدة».