عاجل:

بارولين كان ينوي زيارة جنوب لبنان.. لماذا تغيّر برنامجه؟

  • ٢١٧

كتب داود رمال:

يُروى أنه عندما تبلغ جوزيف ستالين من رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل أن الحبر الأعظم في الفاتيكان أعلن الحرب ضد الزعيم الألماني أدولف هتلر، كان جواب الديكتاتور السوفياتي: "وكم دبابة يمتلك بابا الفاتيكان"؟

ليس الفاتيكان قوة سياسية أو عسكرية. هو سلطة معنوية لا أكثر ولا أقل. دولة تُقيم على نحو 44 كيلومتراً مربعاً ولا يتجاوز عدد سكانها الـ 800 نسمة، ومن المقرر أن تحتفل بمئويتها (كدولة) في العام 2029. ويُقدّر عدد المنتمين إلى الديانة الكاثوليكية في العالم بنحو مليار و400 ألف نسمة. هؤلاء تمتد سلطة بابا الفاتيكان عليهم. هناك سفارات بابوية في معظم أنحاء العالم ويوجد سفراء يُمثّلون كل دول العالم في دولة الفاتيكان؛ وعندما كانت بعض الدول ترغب بتسمية سفير واحد في كل من روما والفاتكيان، لأسباب اقتصادية، كانت أعلى سلطة كاثوليكية في العالم ترفض هذه الإزدواجية وتُصر على أن يكون لكل دولة تمثيلها القائم بذاته في الفاتيكان.

ما هي مناسبة هذا الإستعراض؟

زيارة الرجل الثاني في الكرسي الرسولي الكاردينال بيترو بارولين إلى بيروت، الأسبوع الماضي، وهي زيارة خاصة، تعمّدت حاضرة الفاتيكان ألا تُعطيها طابعاً رسمياً، تحسباً لمفاجآت لبنانية غير محسوبة، وحتى لا تُحسب زيارة أمين سر الدولة في لائحة حركة الموفدين المعلنة وغير المعلنة، وجميعها دوّنت الى جانبها عبارة “فشلت” في الملف الداخلي وتحديداً الرئاسي.

اعتاد الفاتيكان دبلوماسية الصمت، وهو لا يبادر إلا لينجح، انما كان لا بد لبارولين أن يُعاين على أرض الواقع مضمون التقارير المكدّسة على مكتبه، ومعظمها يتناول “المصائب” السياسية والكنسية في لبنان، وقد غادرنا الرجل الثاني في الفاتيكان، من دون أن يُخالجه أدنى شك، بأن المصيبة اللبنانية “كبيرة جداً”، وأن التغيير “لا بد منه”، وأن جيلاً جديداً ودماً جديداً وفكراً جديداً “يجب أن يُضخ في عروق وطن الرسالة المسمى وفق العقيدة المسيحية وقف الرب”.

كانت فرصة أن يلتقي بارولين بالقيادات الروحية بلا استثناء، لا سيما الاسلامية منها، وأن يستمع إلى الهواجس خارج الرسميات والبروتوكولات، كما عقد اجتماعات كثيرة ظلّت بعيدةً عن الأضواء وشملت الكثير من القيادات والشخصيات المسيحية، فضلاً عن زيارتين قام بهما إلى كل من رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي الذي أقام لبارولين إستقبالاً رسمياً في السرايا الكبير، اطلعت الدوائر البروتوكولية في الفاتيكان على كل تفاصيله، برغم أنه لم يكن مدرجاً في صلب برنامج الزيارة، إلا أن بارولين وبحكم علاقته المميزة بميقاتي منذ نحو عقد من الزمن، تجاوب مع لفتة رئاسة الحكومة اللبنانية.

وإذا كان البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي يُريد للفاتيكان، منذ سنوات، أن يتبنى مقولته بشأن حياد لبنان، كان لافتاً للانتباه ما سرّبته أوساط مارونية متابعة للزيارة بأن الحياد، وفق القانون الدولي، “مسؤولية الدولة اللبنانية التي عليها أن تطلب الحياد، والدول المحيطة بلبنان هي التي يجب أن تعترف بحياده، ولو افترضنا أن سوريا قبلت، ماذا عن إسرائيل؟ هذا الكيان الذي لا نعترف به، نريد منه أن يعترف بحيادنا، والأخطر أن إسرائيل نفسها لا تعترف بكيان اسمه لبنان، ومنذ العهد القديم فان مشروع التلموديين هو احتلال الارض ونسبة كل ذلك الى الله الذي يزعمون أنه قال لهم حدودك يا إسرائيل من النيل الى الفرات”.

ولا تخفي الأوساط نفسها أن الكرسي الرسولي، وفي إطار حث رعيته على الاندماج في محيطها المشرقي، “كان أوّل من شجّع الكنيسة في لبنان على الانفتاح على حزب الله كجزء أساسي من التركيبة اللبنانية، ودفع دماً في سبيل لبنان، ولا يستطيع البطريرك الماروني أن يقول في أول حبريته خلال زيارة له إلى الجنوب “نشكر الحراب التي حمتنا”.. واليوم تتحول هذه “الحراب الحامية” إلى “ارهاب” في لحظة لبنانية واقليمية خطيرة ترتكب خلالها إسرائيل أفظع حرب إبادة في تاريخ البشرية، وإذا كان هناك من ملاحظات على أداء حزب الله، كان يُفترض ببكركي أن تتواصل بالمباشر، وعلى المستوى الذي يليق بكرسي انطاكيا وسائر المشرق، ما سيفرض على حزب الله بالمقابل أن يكون التواصل على مستوى أرفع، ولماذا لا نستلهم الحل من قول قداسة الحبر الأعظم الراحل يوحنا بولس الثاني الذي قال إن “أكبر مدافع عن الإسلام الحقيقي اليوم هو المسيحي اللبناني الحقيقي، والمسلم الحقيقي اللبناني هو أكبر مدافع عن المسيحي اللبناني الحقيقي، وما يجمع المسيحي اللبناني إلى المسلم اللبناني أكبر بكثير مما يجمع المسيحي اللبناني إلى المسيحي الآخر في الشرق”.

ما أثار حساسية الفاتيكان، تضيف الأوساط المارونية، أنّ الكاردينال الراعي، ونتيجة خطأ ما، تصادف توقيت هجومه غير المباشر على حزب الله قبل ساعات قليلة من وصول الكاردينال بارولين الى بيروت، الأمر الذي جعل كثيرين يستنتجون أن هناك محاولة متعمدة لافشال زيارة بارولين قبل بدئها، ومحاولة لوضع سقف سياسي مرتفع للغاية في التوقيت الخطأ والظروف الخطأ.

ومن تابع عظة الكاردينال بارولين يلمس أنه مرّر كل الرسائل التي يريد تمريرها إلى المستويين الكنسي والسياسي في لبنان، بعدما رفضت دوائر الفاتيكان أن يكون لقاء بكركي محصوراً ببطاركة الطوائف المسيحية وأصرت على اللقاء الجامع الاسلامي المسيحي عبر مشاركة المرجعيات الدينية الاسلامية، إلا أن لغماً اضافياً وُضع في درب الزيارة من خلال دعوة القيادات السياسية المارونية إلى اللقاء نفسه، وهو أمرٌ لم يكن يريده الفاتيكان بأي حال من الأحوال، بحيث تحوّل اللقاء إلى مجرد فولكلور، بعدما رفض الفاتيكان أيضاً، عقد رياضة روحية في السفارة البابوية يحضرها القادة الأربعة لموارنة لبنان: سمير جعجع، جبران باسيل، سامي الجميل وسليمان فرنجية. ففي عظة بارولين تأكيد على أنّه يجب أن تكون الكنيسة قريبة من شعبها، وأن تلتزم الحفاظ على لبنان كصيغة تجمع المسلمين والمسيحيين، والتشديد على الأقوال التي قالها البابا يوحنا بولس الثاني في وقت كان جزء من المسيحيين، كما في يومنا الحاضر، ينحو إلى تبني صيغ الفيدرالية والكونفيدرالية، في مقابل قول جزء من المسلمين انه لا حاجة للإبقاء على صيغة لبنان، وعندما دعا يومها إلى سينودس من أجل لبنان دعا اليه المرجعيات الاسلامية التي أكدت أن صيغة لبنان المسيحي والمسلم وحدها القابلة للحياة بوجه إسرائيل التي كانت ما تزال تحتل جزءاً كبيراً من أرض لبنان. تكرار كلام يوحنا بولس الثاني في عظة بارولين، والاستشهاد بنبوءة أشعيا للتأكيد على أهمية لبنان، أتى في معرض توجيه رسالة إلى الإسرائيليين وإلى كل من يريد القضاء على هذه الصيغة اللبنانية، بأن الكرسي الرسولي متمسك بالحفاظ على “لبنان الرسالة”.

بكل الأحوال، “لقد عاين الكرسي الرسولي مباشرة حجم الأزمة، وتحديداً على المستويين الديني والسياسي مسيحياً، بعدما قامت السفارة البابوية في عهد سفيرين بابويين ومراجع مختلفة بارسال تقارير حول كل المخالفات والتصرفات غير السليمة وعدم التقيّد بتوجيهات الكرسي الرسولي، وموقف البابا فرنسيس في هذا الاتجاه معروف، وسيُبنى على نتائج زيارة بارولين وما تخللها من مكائد المقتضى المناسب”، على حد تعبير الأوساط المارونية القريبة من الفاتيكان.

وعندما قال بارولين من مقر رئاسة مجلس النواب في عين التينة أن “الحل يبدأ من هنا” فهذه رسالة لمن يريد أن يسمع من المسيحيين والمسلمين، بأن الحل ينطلق من خلال الحوار الذي دعا إليه رئيس مجلس النواب ولا يمكن تجاوز موقع الرئاسة الثانية في الاستحقاق الرئاسي، وهذا الموقف جاء بعد وصول نص مكتوب من المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى إلى السفارة البابوية، والأهم صدور موقف علني عن المجلس الشيعي أوضح كل الملابسات قبل مغادرة بارولين العاصمة اللبنانية، بالإضافة إلى الدور التوفيقي الهام الذي لعبه شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز سامي أبي المنى، الذي حاول حصر واحتواء ردود الفعل على عظة الراعي..

ما تُكرّر قوله الأوساط المارونية المعنية، أن الهدف الاساسي كان عقد لقاء ديني روحي في بكركي واطلاق نداء، تليه زيارة يقوم بها بارولين الى الجنوب على أن يستقبله في مدينة صور ومن ثم في بلدة رميش قضاء بنت جبيل مسؤولون روحيون، على أن يُوجّه من أقصى الجنوب نداء مسيحياً ـ اسلامياً إلى العالم من اجل السلام، وكان نص النداء شبه جاهز بانتظار ما تريد المرجعيات الاسلامية اضافته على متن النص. إلا أنّ ما دُبّر لجهة اغراق اللقاء بالسياسيين وعدم حضور عدد من قيادات الصف الأول، والانفجار الكبير الذي ضغط على صاعقه الراعي في عظة الأحد أدى إلى افشال زيارة الجنوب التي كان يُعوّل عليها لاعلان موقف مسيحي اسلامي رافض للحرب ضد الشعب الفلسطيني.

ومن تابع الاعلام الرسمي الفاتيكاني، لفت انتباهه أنه لم يأتِ على ذكر الابعاد السياسية للزيارة، انما ركّز على البعد الروحي “زيارة تضامن مع المسيحيين والمسلمين في لبنان المتألمين الذين يدفعون ثمن الحرب الدائرة في المنطقة”، والتأكيد على “أهمية ودور ورسالة لبنان بأن يكون ملتقى بين المسيحية والاسلام”. في المحصلة، اذا كان البطريرك الياس بطرس الحويك هو بطريرك لبنان الكبير، والبطريرك انطون بطرس عريضة هو بطريرك الاستقلال، والبطريرك نصرالله بطرس صفير هو بطريرك الاستقلال الثاني، يُريد الراعي أن يُتوّج “بطريرك الحياد”، فهل ينجح في غايته؟