كتب الياس فرحات في “اللواء”:
وأخيراً نشبت الحرب بين لبنان وإسرائيل من دون إعلان واتخذت المواجهة العسكرية شكلاً جديداً يختلف عن الحروب السابقة ولا سيما حرب تموز/يوليو ٢٠٠٦.
أولاً؛ مسار الحرب:
١- في اليوم التالي لـ«طوفان الأقصى»، أي في ٨ تشرين الأول ٢٠٢٣، بدأ حزب لله بخوض حرب إسناد المقاومة الفلسطينية في غزة. شملت هذه الحرب قصف المراكز العسكرية الإسرائيلية على طول الحدود من رأس الناقورة على ساحل البحر المتوسط غرباً إلى مزارع شبعا وتلال كفرشوبا شرقاً. تضمنت الأهداف مراكز الاستطلاع وأجهزة الرادار والكاميرات المتقدمة وأجهزة الإستشعار Sensors وبعض ما يظهر من آليات عسكرية معادية. وردّ الجيش الإسرائيلي بقصف ما حدّده من مصادر نيران ومواقع للمقاومة. تحمّلت إسرائيل كلفة هذه الحرب عسكرياً لكن تداعياتها السكانية كانت ثقيلة وخصوصاً لجهة نزوح عدد كبير نسبياً من سكان المستوطنات الشمالية إلى الوسط حيث صاروا مع طول الوقت يُشكّلون عبئاً على الدولة ثم على المجتمع ناهيك عن الدمار وتوقف النشاط الاقتصادي ولا سيما السياحي في الشمال. حاولت الحكومة الإسرائيلية استيعاب هذه المشكلة باستضافة النازحين في فنادق واختصرت عددهم إلى ستين ألفاً هم سكان الفنادق من دون أن تحتسب من غادر منهم إلى خارج البلاد أو إلى أماكن سكن ثانية داخل الكيان بعيداً عن الشمال الملتهب.
٢- بعد نحو سنة من القتال في غزة، تمكّنت إسرائيل من دخول القطاع بكامله برغم تحذير محكمة العدل الدولية ومعظم دول العالم من الدخول إلى رفح وتدمير الأبنية السكنية والمستشفيات ودور العبادة والمدارس والجامعات ومراكز الأونروا ومقتل أكثر من ٤١ ألفاً وجرح نحو ١١٠ آلاف، لكنها فشلت في تحقيق هدفيها المعلنين، الأول، القضاء على حركة حماس التي ما تزال بعد سنة موجودة في الأنفاق وتحتفظ بالقيادة والسيطرة والجهوزية العملياتية لتنفيذ هجمات ضد القوات الإسرائيلية. الثاني، تحرير الأسرى بعد فشلها في تحدّي العثور على مكان احتجازهم وفشل محاولات كثيرة لتحريرهم بالقوة.
٣- دخلت إسرائيل في دوامة فشل العمليات العسكرية في غزة وتفاقم الوضع العسكري في الجبهة الشمالية وتصاعد الحديث عن فتح جبهة ثانية مع لبنان ودخول الأراضي اللبنانية وإقامة حزام أمني في داخلها. وفي هذه الأثناء، نفّذت عمليات تدمير وتجريف في شمال الضفة الغربية شملت مخيمات جنين وطولكرم وطوباس ثم امتدت جنوباً إلى الخليل.
على مدى سنة، ارتبك وضع إسرائيل في العالم وتصاعدت الانتقادات لسياستها دولياً، وشهدنا اعتراف دول بالدولة الفلسطينية وصدور قرار عن محكمة العدل الدولية يعتبر كل الأراضي التي احتلتها إسرائيل في العام ١٩٦٧ بما فيها قطاع غزة أراضٍ محتلة حسب القانون الدولي وقرّرت الجمعية العامة للأمم المتحدة دعوة إسرائيل للانسحاب منها خلال سنة، ناهيك عما ينتظرها في المحكمة الجنائية الدولية من مذكرات اعتقال بحق كل من نتنياهو ووزير حربه يوآف غالانت. كذلك شهد الإئتلاف الحاكم في إسرائيل أزمات وتوترات بعد استقالة بني غانتس وغادي أيزنكوت وتفاقم الأزمة بين غالانت ونتنياهو الذي بات بحاجة إلى حدث جلل يرفع وضعه.
٤– عقد نتنياهو العزم على تغيير الوضع فثبّت الوضع في غزة على استمرار الانتشار في محور فيلادلفيا ومحور ناتساريم ودخول متقطع إلى باقي أنحاء القطاع لأيام قليلة. في ١٦ أيلول ٢٠٢٤، اتخذ مجلس الوزراء الإسرائيلي قراراً بتحديث أهداف الحرب بحيث باتت تشمل الهدف الآتي: العودة الآمنة لسكان الشمال إلى منازلهم.
ولم يمضِ يوم واحد على اتخاذ هذا القرار حتى وجّهت إسرائيل ضربة مفاجئة ومخالفة لكل التوقعات، عبر تفجير أجهزة الاستدعاء الآلي pagers وفي اليوم التالي تفجير الأجهزة اللاسلكية ICOM ما أدّى إلى استشهاد أكثر من أربعين وإصابة نحو أربعة آلاف بجراح بينهم 200 جراحهم بالغة. شكّلت هاتان العمليتان إرباكاً في صفوف المقاومة لأن معظم حاملي الأجهزة يرتبطون بالمقاومة وغالبيتهم من القطاع الإداري، لكن قيادة حزب الله لم تفقد قدرة السيطرة والتحكم بل تمكّنت من إدارة الميدان وفي الوقت نفسه عمليات الإنقاذ من دون أن تتأثر الجهوزية العملياتية حيث استمرت عمليات إسناد غزة. الأرجح أنّ إسرائيل كانت تأمل أن ينهار حزب الله بعد هاتين الضربتين وأن يُذعن لمطالبها بوقف إطلاق النار في الجنوب والفصل بين مسار جنوب لبنان ومسار غزة. ومن المعروف أن قيادة حزب لله تبلّغت بعد تفجير جهاز الـ Pager تهديداً باستمرار الضربات إذا لم يرضخ الحزب للمطالب الإسرائيلية. وجاء قصف مبنى في الضاحية الجنوبية واغتيال القائد إبراهيم عقيل (الحاج عبد القادر) وعدد من قادة أركان «فرقة الرضوان» ونحو ستين مدنياً ليُعزز الاعتقاد بجديّة التهديدات الإسرائيلية.
٥- إلى نموذج غزة؛ ففي خطوة مفاجئة وغير مستغربة، شنّت إسرائيل هجوماً جوياً شمل أكثر من ١٣٠٠ طلعة جوية واستهدف مدنيين في منازلهم في عشرات القرى في الجنوب والبقاع وجبيل وكسروان وساحل الشوف (جون)، ما أدّى إلى استشهاد ما يزيد عن 600 وجرح أكثر من ألف من المدنيين. ادّعت إسرائيل انها استهدفت مواقع لحزب الله وقصفت عدداً كبيراً من الأودية المحيطة بالقرى وتسببت بأزمة نزوح من الجنوب نحو بيروت والجبل والشمال ومن البقاع الشمالي إلى البقاع الأوسط وسوريا. بذلك تكون إسرائيل قد تسببت بأزمة نزوح واستهداف بيئة حزب الله الحاضنة. يبدو ان إسرائيل استغلّت صمت المجتمع الدولي وما يفهم من موافقة الولايات المتحدة على قتل المدنيين وتهجيرهم في غزة لتكرر العمل نفسه في الجنوب اللبناني والبقاع. كما ان قرار المقاومة المعلن هو عدم الرضوخ لإسرائيل.
٦- بدأت إسرائيل هجومها واندفاعها باتجاه حزب لله وسجلت نقاطاً هامة في الاغتيالات وفي القصف الجوي وفي المقابل، سجّل حزب الله اثبات جهوزيته العملياتية ووصول الصواريخ إلى وسط إسرائيل وقصف أهداف وازنة.
ثانياً؛ كيف يُمكن أن تتحقق التسوية؟:
١- استيعاب الوضع الداخلي في لبنان وخصوصاً أزمة النازحين والحرص على عدم اثارة مشاكل في الداخل تؤثر على مواجهة العدو.
٢- توسيع مدى إطلاق الصواريخ إلى الداخل الإسرائيلي والتي وصلت في ٢٣ أيلول إلى جنوب حيفا وشملت قصف قاعدة رامات دافيد ومصنع رافايل للأسلحة ومركز عتليت (الوحدة الخاصة البحرية شايطيت ١٣) وفي صباح ٢٥ أيلول (اليوم) تم إطلاق صاروخ «قادر1» البالستي على مقر قيادة الموساد في ضواحي تل أبيب.
٣- مع المراعاة الدقيقة لحزب الله في عدم استهداف المدنيين في إسرائيل والتي التزم بها منذ ٨ تشرين الأول ٢٠٢٣ لا يمكن إيلام الإسرائيليين إلا بقصف أهداف عسكرية وأمنية في كامل العمق الإسرائيلي وهذا بحد ذاته يصيب البيئة الإسرائيلية المجاورة بالشلل ومن أهم الأهداف العسكرية قاعدة تل نوف الجوية قرب تل أبيب وقواعد أخرى في الوسط مثل حاتسور وحتسريم وغيرها.
٤- لعل الهدف الذي يمكن تصنيفه في خانة «عسكري/ مدني» هو مستوطنات الضفة الغربية التي في حال تعرّضها للقصف يكون لهذا الأمر تبريره لأن معظم المجتمع الدولي يعتبرها غير شرعية وفي حال نزوح المستوطنين إلى تل أبيب وجوارها فإنهم يُسبّبون أزمة خانقة وغير مسبوقة.
في الختام، لا يمكن الاتكال على الولايات المتحدة التي عرضت وقف اطلاق النار وعودة النازحين إلى جانبي الحدود أي بمعنى آخر انتصار إسرائيل، تماماً كالعرض الإسرائيلي لوقف النار في غزة وهو الإفراج عن الأسرى مقابل خروج آمن لرئيس المكتب السياسي في حركة حماس يحيى السنوار إلى خارج القطاع. كما لا يمكن الاتكال على المجتمع الدولي لان من فشل سنة في غزة لن ينجح في لبنان. ستطول الحرب لغاية شعور إسرائيل بالألم جراء النزوح غير المحتمل والإصابات والدمار وعندها يمكن التوصل إلى تسوية لكن بعد استمرار النزف في لبنان وربما في دول أخرى مجاورة تصل إليها الآثار الجانبية للحرب.