كتبت هيام القصيفي في جريدة الاخبار:
ما يقال في الأروقة الديبلوماسية الأميركية والأوروبية عن تدحرج الوضع اللبناني في الأيام الأخيرة، لا يفترض، بحسب رواية أميركية - أوروبية، أن يكون مفاجئاً لأيٍّ من القيادات الرسمية وعبرها لحزب الله. ما قبل الانفجار الأخير، كان الكلام الفرنسي والأوروبي، الاستخباراتي والسياسي، واضحاً في إيصال رسائل مباشرة ومحددة حول ما تفكّر به إسرائيل تجاه لبنان وحزب الله، بالانتقال عاجلاً أو آجلاً إلى جبهة الشمال، ولو تحت مسمّيات مختلفة عن السابق: لا حرب برية ولا اجتياح، بل عمليات عسكرية موجعة. كانت الرسائل السياسية دعوة إلى استغلال مرحلة استمرار انشغال إسرائيل بغزة، من أجل ترتيب الأوضاع الداخلية والعمل بجدية على انتخاب رئيس للجمهورية، يتولى مع فريقه إدارة المرحلة، بما في ذلك الانتقال الى وقف الحرب جنوباً.
وكان الكلام واضحاً عن مهل يفترض استغلالها حتى قبل انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة، بحيث يكون لبنان جاهزاً للانتقال إلى مرحلة جديدة. لم يؤخذ الكلام الفرنسي والأوروبي والأميركي بجدية، فتمّ التعامل مع موضوع رئاسة الجمهورية كأنه تفصيل في مسار الحدث الأمني، وليس كخطوة أولى نحو إعادة تهدئة الوضع اللبناني وإخراجه من السياق العسكري. ولم تؤخذ التهديدات الإسرائيلية أيضاً في الحسبان إلا بكونها تحت سقف عدم رغبة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في توسع الحرب، من دون لحظ أن الأخير يحاول تفويت الفرصة على إيران بإضاعة الوقت قبل الانتخابات الأميركية.الرواية الغربية لانتقال إسرائيل من مرحلة الى أخرى، مع رفع مستوى اعتداءاتها على حزب الله ومناطق الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية، تتلخص ببضعة معطيات:
جهدت واشنطن، في كل مراحل الحرب، من أجل تكريس معادلة الاستقرار الداخلي ومنع تحوّل حرب المساندة التي أطلقها حزب الله دفاعاً عن غزة، إلى حرب واسعة بالمعنى الذي يهزّ استقرار لبنان ويكرّر تجربة الحروب السابقة. لذلك عمدت، في كل مرحلة توتر، إلى إرسال موفديها والقيام بجولات اتصالات داخلية لمنع التصعيد، مراهنةً في الوقت نفسه على رغبة إيران وحزب الله وإسرائيل في منع تحوّل المواجهة بين الطرفين الى حرب واسعة لبنانياً وإقليمياً. وكانت دول أوروبية فاعلة عنصراً مساهماً في هذا الاتجاه الذي كان يتبلّغه لبنان في شكل رسمي. لكن، في المقابل، كان القلق مستمراً من أن لبنان لا يتعامل مع إسرائيل على قدر المتغيرات التي طاولتها بعد 7 تشرين الأول الفائت، وجعلتها تطيح بكل قواعد اللعبة التي مورست في المنطقة طوال عقود.
خيط رفيع لا يزال يربط إسرائيل باتفاق الترسيم البحري وأيّ تخطٍّ له من الحزب يعني مرتبة أخرى من التصعيد العسكري
بعد المواجهة ما قبل الأخيرة، وخطاب الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله ردّاً على اعتداءات يومي الثلاثاء والأربعاء الماضيين، ولا سيما لجهة الرسالة الأخيرة بتأكيد الاستمرار في حرب المساندة، انتقلت إسرائيل من معادلة الى أخرى. المعادلة الأولى كانت ضمن الخطوط الحمر المتعارف عليها، وضمن الردود المتبادلة ولو رفعت إسرائيل من وتيرتها، وهذا يعني أنها كانت لا تزال تتصرف على قاعدة الرد المضبوط، والالتزام بمفعول الاتفاق على الترسيم البحري وعدم المسّ بأيٍّ من القواعد العملانية التي شملته. تأكيد حزب الله على الاستمرار في حرب الإسناد عنى الانتقال الى معادلة أخرى، بما يتعدّى ضرب بنية الحزب، إلى المسّ بالاستقرار الداخلي الذي كانت الولايات المتحدة وأوروبا تريدان الحفاظ عليه في لبنان، والذي كان الحزب طوال عام من بداية حرب غزة يحمي ظهره به. وبحسب الرواية نفسها، فإن خيطاً رفيعاً لا يزال يربط إسرائيل بالاتفاق على الترسيم البحري ومندرجاته، وأيّ تخطٍّ له من جانب الحزب سيترتّب عليه الانتقال الإسرائيلي الى مرتبة أخرى من التصعيد العسكري.
والمسّ بالاستقرار الداخلي يعني ما يمكن أن يشهده لبنان في غضون أيام قليلة، هو تماماً ما شهدته غزة في أشهر طويلة، ولا سيما أن الوضع اللبناني يعاني أصلاً من انهيار اقتصادي واجتماعي، عدا عن أن في لبنان «مجتمعات وطوائف»، وأن الخلافات السياسية تساهم حكماً في تذكية التوترات الداخلية على خلفية الاعتداءات الإسرائيلية وما ستخلفه. فما فعلته إسرائيل في غزة من ضغط لترانسفير بين الشمال والجنوب قامت به عكسياً في لبنان من الجنوب نحو الشمال - كما سياسة الأرض المحروقة – مع ما سيخلّفه هذا التهجير الداخلي من ضغط اجتماعي واقتصادي، وإرباك في حركة الاستيراد وحركة الطيران وكل ما يترتّب على ذلك من توترات.
وفق ذلك، تخطّت إسرائيل الخطوط الحمر، وغضّت الولايات المتحدة النظر، طالما أن لبنان لم يستجب لكل النصائح التي أعطيت له، من دون التخلّي، من جانب واشنطن ودول أوروبية فاعلة، عن هامش من الحركة لتفادي الاتجاه نحو الأسوأ، حتى لا تتعمّم سياسة الأرض المحروقة الى الداخل، ويطاح بما تبقى من عناصر أولية يمكن البناء عليها في أيّ حل تفاوضي لا يمكن الكلام عنه قريباً. فالتفاوض الجدي للتوصل الى القرار 1701 لم يبدأ في الأيام الأولى لحرب تموز. والحرب بشكلها الجديد لم تبدأ بعد أسبوعها الثاني، لأن إسرائيل لم تحتسب السنة الفائتة كلها كمقدمة للاعتداء على لبنان.