جاء في "الأخبار"
ليست المرة الأولى التي يعتمد فيها رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو «استراتيجية» تغليف التحديات السياسية بالتحدّيات الأمنية الكبرى و«التهديد الوجودي» وغيرهما. فعل ذلك مرات عدّة خلال الحرب المستمرة على غزة. إلا أن وقائع الميدان في الجبهة الشمالية للكيان، على الحدود مع لبنان، بعد مرور نحو عام على الحرب، فرضت نفسها تحدّياً رئيسياً على طاولة القرار في تل أبيب، بما لا يسمح بتجاوزها، وإن كانت قابلة للاستغلال والاستثمار السياسي بالنسبة إلى نتنياهو. ولعل أبرز دليل على أولوية هذا الاستثمار السياسي هو تأجيله عقد اجتماع «الكابينت» للتصديق على قرارات تخصّ جبهة الشمال، 3 مرات على التوالي، أمس، بسبب انشغاله باتصالات سياسية مكثّفة لتنفيذ خطته في ما يتعلّق بالائتلاف الحكومي. ويبدو أن دخول رئيس حزب «اليمين الوطني» جدعون ساعر إلى الحكومة، وخروج وزير الحرب يوآف غالانت منها، باتا قاب قوسين أو أدنى من التحقّق، وربما خلال وقت قريب لا يتجاوز أياماً قليلة. وعلى هذا الأساس، يجدر تثبيت مرتكزات أساسية لفهم «الحفلة» الحالية في إسرائيل.أولاً، الوضع القائم في الشمال، والتصعيد العسكري المحتمل، هما مادة دسمة للاستثمار السياسي والجماهيري في الكيان، وتختلف خلفية الاستغلال بحسب اختلاف الجهة صاحبة العلاقة، إذ يتفق الجيش الإسرائيلي وغالانت ونتنياهو، على ضرورة إيجاد حل للشمال، وبما أن «حزب الله» متمسّك بموقفه الرافض لوقف جبهة الإسناد، فإن المستويين الأمني والسياسي يميلان الآن للاقتناع بحتمية العمل العسكري، بغضّ النظر عن شكله ومداه.
ثانياً، بعد اتفاقهما على ضرورة الحلّ، وإن كان عسكرياً، يبرز الخلاف بين المستويين الأمني والسياسي في الكيان. الأول يرى ضرورة التوجّه إلى تصعيد كبير على الجبهة اللبنانية، وعدم الاكتفاء بعملية محدودة، إذ ترى قيادة جيش العدو، أن عليها تحقيق إنجازات عسكرية ثقيلة تغيّر الواقع الأمني جذرياً في شمال فلسطين المحتلة، بما يتطلّب عملية عسكرية واسعة، وربما طويلة. وعلى هذه الخلفية، تطالب المؤسسة الأمنية بقيادة غالانت ورئيس هيئة الأركان بالتوصّل إلى صفقة في قطاع غزة وإنهاء الحرب، أو خفض حدّتها إلى الحد الأدنى، بما يمنح الجيش وقتاً وقدرات كافية للاستعداد لحرب الشمال الكبيرة، وفي ظلّ دعم أميركي واضح، والأفضل بلا شكّ أن يكون ذلك بعد انتهاء الانتخابات الأميركية. وهذا يخدم الإدارة الأميركية الحالية، ويعزّز حملة المرشّحة الديمقراطية كامالا هاريس. أما المستوى السياسي، وتحديداً نتنياهو، فيريد خلق ظروف متوترة إلى الحدّ الأعلى، تبقى على شفير الحرب، أو تنتقل بما هو جارٍ حالياً إلى مرحلة أعلى وأكثر تزخيماً - دون الحرب الشاملة - لخلق ضغط على المقاومة في لبنان، ودفعها إلى التفاوض والتراجع، ما يأتي بالأميركيين لاجتراح الحلول، وفي حال فشلوا (وهذا المُرجّح) ستكون «شرعية» لإسرائيل، ودعمٌ أميركي لتوسيع العمليات العسكرية أكثر فأكثر، وسيدفع ذلك الإدارة الأميركية إلى تسديد أثمان مباشرة، سواء لفشلها في خفض التصعيد وتحقيق تسوية، أو لاضطرارها إلى الانخراط في الحرب ولو بشكل غير مباشر وتدريجي. وهذا السيناريو يخدم بشكل مباشر المرشّح الجمهوري في الانتخابات الأميركية، دونالد ترامب.
ثالثاً، يستغلّ نتنياهو الحاجة إلى تحرّك عسكري في الشمال لتحقيق أهداف سياسية كبرى، أهمّها إقالة غالانت من الحكومة، ثم توسيعها. وهذا هدف قديم - جديد لنتنياهو الذي سبق أن أقال غالانت قبل الحرب على خلفية ما عُرف بـ«الإصلاح القضائي»، لكنه أعاده إلى الحكومة بعد تفجّر تظاهرات عارمة في وجهه حينها. وخلال الحرب، انفجرت خلافات عدة بين الرجلين، خصوصاً في ما يتعلّق بالمفاوضات حول صفقة الأسرى، وقانون تجنيد الحريديين، وأهمّها على الإطلاق، موقف غالانت من مسألة احتلال «محور فيلادلفيا»، حيث عارض ذلك، وروّج لعدم الحاجة إليه، وأضعف موقف نتنياهو أمام الجمهور إلى حد بعيد. وتراكمت الأسباب التي يراها نتنياهو موجبة لـ«طرد» غالانت من الحكومة، لكنّ الخشية من ردود الفعل في الشارع الإسرائيلي، وكذلك في واشنطن، بعدما أصبح غالانت الوزير «الملك» لدى إدارة بايدن، حال دون اتخاذ القرار. اليوم، يحاول نتنياهو تغليف خلافه مع غالانت بتحدي جبهة الشمال، وهو يعتقد بأنه من خلال ذلك سيمتلك «شرعية» إقالة غالانت أمام الجمهور بشكل خاص، عبر اتهام الأخير بالضعف والجبن عن الذهاب إلى عملية عسكرية في الشمال، وتفضيله صفقة في قطاع غزة وتسوية في الشمال. وهذا ما دفع غالانت إلى تشديد مواقفه تجاه جبهة لبنان، خلال الأيام الماضية، إذ حاول الظهور في موقع الوزير المبادر والمهاجم الذي لا يخشى مزيداً من الحرب.
رابعاً، يروّج نتنياهو بأن استبدال غالانت برئيس حزب «اليمين الوطني» جدعون ساعر، وتوسيع التشكيلة الحكومية، يمكن أن يعزّزا صفقة التبادل مع «حماس»، ويُضعفا موقف وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير داخل الحكومة، حيث سيكون للحكومة تأييد في «الكنيست» يسحب من بن غفير القدرة على إسقاطها متى ما أراد، ويضيّق عليه هامش تحرّكه داخل الائتلاف. وفي المقابل، يعتقد نتنياهو بأن وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، أكثر واقعية، ومن الممكن إقناعه بدعم الصفقة، أو على الأقل عدم رفضها. وهكذا يكون نتنياهو قد تخلّص من غالانت، وتخفّف من عبء بن غفير، ويضمن بقاء حكومته إلى آخر ولاية «الكنيست» الحالي، أي بعد عامين تقريباً.