كتب علي حيدر في جريدةة لاخبار:
ليس مفاجئاً أن تبادر الولايات المتحدة بعقد لقاء افتراضي على مستوى كبار المسؤولين لمناقشة مستقبل الوضع على الجبهة اللبنانية، على خلفية محطات التصعيد التي شهدتها، وآخرها ردّ حزب الله على العدوان على الضاحية الجنوبية. وهو ما يدفع الإدارة الأميركية إلى البحث عما قد يحول دون تصعيد لاحق يُتوقع أن يكون أشد (في ضوء الوتيرة التصاعدية لردود حزب الله)، أو التوصل إلى تسوية طويلة المدى تنهي القتال.ويؤشر عقد اللقاء والحرص الأميركي على بقائه بعيداً عن الإعلام إلى أرجحية أن تكون المباحثات أوسع مدى مما تسرّب، إذ إن رسائل النشاطات العملياتية لحزب الله في مواجهة الكيان الإسرائيلي، أكثر حضوراً لدى مؤسسات القرار السياسي والأمني في تل أبيب وواشنطن. وهذه حقيقة يؤكدها الواقع، وتنعكس أيضاً في ردود الفعل الأميركية والإسرائيلية على خطوات الحزب العملياتية ومواقفه السياسية. وتنبع المواكبة الأميركية والإسرائيلية لمسار عمليات حزب الله، من كون الفعل العسكري ونتائجه ونطاقه وأدواته وتوقيته، تُعد من المُحدِّدات الرئيسية لمفاعيله السياسية، وأحياناً الردعية. فيما تتصل المُحدِّدات الأخرى، التي يتجاوز تأثيرها الفعل العسكري، بتقديرات العدو ومخاوفه من الخطوات اللاحقة المحتملة.
من هنا، فإن بعض النتائج السياسية لجبهة الإسناد اللبنانية برزت مؤشراتها في وقت مبكر في تل أبيب وواشنطن. ومن أبرز تجلياتها موقف المؤسسة العسكرية وتوصياتها بأن تهدئة جبهة لبنان تمر حكماً بوقف الحرب على غزة. والأمر نفسه تكرر على ألسنة كبار المسؤولين الأميركيين.
وترى واشنطن أن ديناميات جبهة لبنان مفتوحة - على الأقل في تداعياتها وتأثيرها - على الخيارات العملياتية الإسرائيلية وردود فعلها، وبالتالي يمكن أن تشهد في لحظة ما تصعيداً يتدحرج إلى سيناريوهات أكثر خطورة. في ضوء ذلك، يأتي ما كشفه موقع «واللا» العبري عن أن الإدارة الأميركية بادرت إلى لقاء تشاوري على مستوى مستشار الأمن القومي الأميركي جاك سوليفان ووزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون دريمر، بهدف «جس نبض الجانب الإسرائيلي» وتنسيق السياسات تجاه لبنان، في ظل سيناريوهين: الأول، التوصل إلى وقف النار في غزة، وكيفية التوصل إلى حل دبلوماسي طويل المدى ينهي القتال بين إسرائيل وحزب الله، وإعادة المستوطنين الهاربين إلى مستوطناتهم على الحدود مع لبنان. والثاني، في حال عدم التوصل إلى اتفاق لوقف النار في غزة، كيف يمكن كبح التصعيد على جبهة لبنان في المدى القريب؟ ولم يكن عابراً أن يشارك في اللقاء أيضاً المبعوث الرئاسي عاموس هوكشتين، بما يشكل أرضية لجولة إضافية له بين إسرائيل ولبنان قريباً، على ضوء اتضاح آفاق مستقبل المفاوضات على جبهة غزة.
ومن الواضح حضور رد حزب الله على العدوان الإسرائيلي في الضاحية الجنوبية في خلفية هذا النوع من المشاورات، لعاملين رئيسيين، الأول أنها كانت المحطة الأكثر خطورة التي كان يمكن أن تتدحرج إلى مواجهة أكبر. والثاني، أنها المؤشر الأكثر صراحة إلى إمكانية حصول عمليات تصعيد لاحقة. ينبع ذلك من كون الرد تضمّن، من ضمن عناصر أخرى، استهداف المقر الرئيسي لوحدة 8200 في غاليلوت في تل أبيب الكبرى، بعشرات المُسيّرات. وأياً كانت النتائج العسكرية لهذا الاستهداف فقد عكس تصميم حزب الله على معادلة الضاحية - تل أبيب. وفهم الطرفان الأميركي والإسرائيلي رسائل إصرار حزب الله على هذه المعادلة، رغم أنه كان بإمكانه استهداف العديد من الأهداف الاستراتيجية والحيوية في منطقة الشمال، وهو مؤشر ينطوي على مخاطر تصعيد محتملة في أي مرحلة لاحقة في مواجهة أي عمليات تصعيد إضافية يمكن أن يلجأ إليها العدو. وكلما طال أمد هذه الجبهة ارتفعت معه هذه الاحتمالات. وحضر هذا البعد أيضاً في تقرير «واللا» حول اللقاء، باعتباره الحدث الأكبر على مستوى تبادل النيران بين حزب الله والجيش الإسرائيلي.
في الخلاصة، فإن المشاورات الأميركية الإسرائيلية، وما تضمّنتها من سيناريوهات ومخاطر وخيارات مطروحة للتعامل معها، ليست إلا أحد أهم معالم تعقيدات الحرب التي تشنها إسرائيل في أعقاب طوفان الأقصى. وإذا ما كانت الأثمان المرتفعة هي التي تردع إسرائيل عن الخيارات العدوانية الدراماتيكية، فقد بلغت هذه الأثمان الكلية مستويات لم يسبق أن شهدتها إسرائيل، من دون أن تتمكن حتى الآن من تحقيق الأهداف (ولا يعني ذلك أنها لم تحقق أي نتائج)، ومع ذلك لم ترتدع قيادة العدو عن خيار الحرب حتى الآن.
ولا ينبع قرار القيادة السياسية للعدو تحمّل الخسائر الكبيرة على كل الجبهات بفعل إصرارها على استمرار الحرب، نتيجة ضعفها أو تواضعها. فلا جبهة غزة تراجع صمودها واستنزافها للعدو. ولا جبهة لبنان تراجعت عملياتها، كجبهة إسناد، بل تواصل مساراً تصاعدياً وبلغت مستويات لم يسبق أن شهدتها إسرائيل في كل تاريخ عملياتها والحروب السابقة مع لبنان. والأكثر خطورة بالنسبة إلى إسرائيل أن ساحة القتال الرئيسية هي أراضيها «السيادية» في شمال فلسطين المحتلة. يُضاف إلى ذلك ما يشبه «الحصار البحري» الذي فرضه اليمن على ميناء إيلات وتسبب بشلله وإفلاسه، إلى جانب الضغوط التي يمارسها عبر البحار على الاقتصاد العالمي لمصلحة فلسطين، من دون إغفال جبهات الإسناد الأخرى في العراق وسوريا.
تفسير ذلك، أن العامل الرئيسي الذي أخَّر حتى الآن قرار وقف الحرب هو وجود حكومة إسرائيلية تداخلت حساباتها ومصالحها وأيديولوجيتها مع رؤيتها الاستراتيجية أيضاً لمستقبل إسرائيل وأمنها القومي. فاختارت مواجهة مخاطر استمرار جبهات القتال، تجنباً لمواجهة مخاطر تداعيات وقف الحرب في ظل المعادلات التي أفرزها طوفان الأقصى والحرب التي تلته. وإلى حين القرار المفصلي، تتسلّط الأضواء على مواعيد واستحقاقات، وعلى مآلات الحراك المجتمعي لكيان العدو ومنظومته الأمنية، ومعهم وقبلهم الإدارة الأميركية المسؤولة الأولى عن كل ما جرى ويجري في فلسطين ومحيطها.